كتبه/ محمود عبد الحفيظ البرتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن نعمة "الأمن" مِن نعم الله -تعالى- العظيمة التي امتن الله بها على خلقه وعباده، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة:125)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
وأخبر الله -سبحانه- أن نقص هذه النعمة مِن جملة الابتلاءات التي يُمتحن ويُختبر بها الخلق، فقال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) (البقرة:155)، وقال -تعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112).
وذكر -سبحانه- منته على قريش بهذه النعمة في قوله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش:3-4)، وقوله: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) (القصص:57)، وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت:67).
- كما امتن الله بهذه النعمة "نعمة الأمن" على أصحاب نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال:26).
- وأخبر -عز وجل- أن نعمة الأمن والاستقرار مطلب لجميع الناس حتى الأنبياء والمرسلين: قال الله -تعالى- عن إبراهيم الخليل -عليه السلام-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم:35)، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (البقرة:126)، وذكر عن نبيه يوسف -عليه السلام-: (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ) (يوسف:99)، وقال -تعالى- عن بني إسرائيل: (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:129).
- وإن مِن أعظم ثمرات الأمن أن يكون المرء آمنًا على دينه، وعلى عقيدته وعبادته لربه، ثم على دمه وعرضه، وماله وولده، فيوحِّد ربه ويعبد الله -تعالى- في أمن وسكينة، قال الله -عز وجل-: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور:55).
- والأمن والطمأنينة، والسكينة والاستقرار، وزوال الخوف مِن أهم الأسباب التي تهيئ النشأة السوية لأفراد الأمة فينفعوا أنفسهم وأمتهم، ومتى زال الأمن؛ حلـَّت الفوضى، وانتشر الفساد والإفساد في الأرض، وفسدت الحياة وشقي الناس، ووقع الظلم والعدوان، والفقر والجوع؛ فإن الأمن والاستقرار مقترنان بالمجد والبناء، والريادة والبقاء، والخوف والفوضى مقترنان بالتشرذم والضعف والشقاء، فالخوف والاضطراب يهدم ولا يبني، ويخرج شخصية مريضة عليلة لا همَّ لها إلا رغباتها، ونجاة نفسها وسلامتها وإن احترق العالم بأكمله مِن بعدها!
- كما أن نعمة الأمن مِن أعظم أسباب انتشار الخير وسماع الحق؛ ولهذا سمَّى الله -تعالى- صلح الحديبية فتحًا مبينًا لأجل ما وقع بسبب هذا الصلح مِن الخير العميم حينما تسنى للمسلمين مخالطة المشركين بأمان فدخل الناس في دين الله أفواجًا، فقال -سبحانه-: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (الفتح:1).
- والإسلام هو دين الأمن، ولا يمكن أن يتحقق للناس الأمن التام إلا إذا دانوا بهذا الدين العظيم الذي يأمر بالتوحيد، والعدل والإحسان، والمعروف ومكارم الأخلاق، وحفظ الدماء والأعراض، والحرمات والأموال، ويَنهى عن الشرك والفحشاء، والمنكر والبغي، ومِن ذلك: تحريم قتل النفس إلا بالحق، وسرقة المال وأكله بالباطل، وظلم الناس، والعدوان عليهم إلا بالحق.
- ومِن أجل هذا الأمن شرع الله القصاص، وجعل فيه حياة للناس: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الأَرْضِ، خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)؛ لأن في إقامة الحدود تحقيق لأمن الناس وحماية دمائهم وأموالهم.
- الأمن للجميع في الإسلام عدا الظالمين المعتدين والمحاربين في الدين:
- قال الله -تعالى-: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8-9).
- وقال -تعالى-: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194).
- وقال -تعالى- (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة: 193):
فبيَّن -سبحانه- الغرض الأصلي مِن جهاد الطلب، ومِن جهاد الكافرين، وهو: أن (يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)؛ فليس غاية الجهاد في سبيل الله مجرد سفك دماء الكفار وأخذ أموالهم، ولكن غايته ظهور دين الله -تعالى- "وهو الإسلام" في الأرض على سائر الأديان، ودفع ما عارضه مِن الشرك والفسوق والعصيان وهو المراد بالفتنة، فإذا تم هذا المطلوب فلا قتل ولا قتال إلا على مَن خالف العهد منهم وظلم (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ).
وأما قوله -تعالى-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال:60)، فهذا في الكفار المحاربين لنا في الدين، الآبين الخضوع لشريعة رب العالمين.
وقال -تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة:32)، وقال: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ) (الأنعام:151).
- وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق الكافر المعاهَد: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري). وقال -عليه الصلاة والسلام-: (أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوْ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- وقال -صلى الله عليه وسلم- مبينًا حق الجار في الإسلام: (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ). قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَه) (متفق عليه). وهذا يشمل الجار المسلم وغير المسلم مِن غير المحاربين كالذميين والمعاهدين والمستأمنين.
- بل نهى -صلى الله عليه وسلم- حتى عنْ ترويع الطيور والحيوانات: فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). "الحمرة: طائر صغير كالعصفور".
- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مَرَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ, وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ, وَهِيَ تَلْحَظُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا، فَقَالَ: (أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟! هَلا حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا؟) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
براءة الإسلام مِن الإفساد في الأرض وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق:
- مما سبق يتبين براءة الإسلام مما يشيعه أهل الفساد ويلصقونه بالإسلام مِن أولئك الذين يتسمون بالأسماء الشريفة تدليسًا وتلبيسًا على المسلمين، وإعطاء الذريعة والحجة لأعداء المسلمين لمحاربة الإسلام والطعن في الدين -أدرك هؤلاء ذلك أو لم يدركوا، علموا ذلك أو جهلوه-؛ فالإسلام بريء مِن أولئك الذين يسفكون الدماء بغير الحق، ويتعدون على حرمات المسلمين قبْل المعاهدين، وإن تسموا وتستروا بأنهم "جهاديون - أو داعشيون" أو غير ذلك مِن الأسماء؛ فإن العبرة بموافقة الشرع والكتاب والسنة، وليس بالمسميات والأسماء.
فضلاً أن يتوجه هؤلاء بالتهديد والوعيد إلى الدعاة إلى الله، وأهل العلم والفضل الذين يحاربون المناهج المنحرفة عن الكتاب والسنة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، نسأل الله أن يكفينا شرهم بما شاء -سبحانه-.
القرآن العظيم وصناعة الأمن:
جاءت نصوص الكتاب والسنة تحض على صناعة الأمن في المجتمعات، وانتزاع الخوف مِن صدور الناس للكبير والصغير، ومَن نعرف ومَن لا نعرف، فمِن ذلك:
- قال الله -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6).
- ومِن ذلك: أن الله -سبحانه وتعالى- طمأن أولياءه وصفوة عباده مِن النبيين والمرسلين والمؤمنين: كما قال الله -تعالى- لموسى -عليه السلام-: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى . قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى . قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى . فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) (طه:17-20)، فلما أخذ الخوف موسى عليه السلام- قال الله له: (خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى) (طه:21)، (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى . قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى) (طـه:67- 68)، (لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى) (طه:77)، (لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (النمل:10)، وقال: (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ) (القصص:31).
- وكذا طمأن الله -تعالى- المرأة المؤمنة أم موسى -عليهما السلام- فقال -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7).
- وهكذا طمأنت الملائكة إبراهيم -عليه السلام-: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) (هود:70).
- وطمأنوا لوطًا -عليه السلام-: (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) (العنكبوت:33).
- ولما وصل موسى -عليه السلام- إلى مدين هاربًا، وحيدًا، جائعًا، خائفًا، وأجاب دعوة الرجل الصالح وقص عليه القصص؛ طمأن موسى -عليه السلام- وقال له: (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين) (القصص:25).
- وهكذا فعلتْ الملائكة مع داود -عليه السلام- لما تفاجأ بهم: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) (ص:22).
النبي -صلى الله عليه وسلم- وصناعة الأمن "تطمين الخائفين وتسكين الفازعين":
- لما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة عام الفتح طمأن أهلها وأشاع فيها الأمن والأمان مع قدرته على الفتك والانتقام "وكانوا أهلاً لذلك"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابهُ فَهُوَ آمِن) (رواه مسلم).
- وعن أبي التياح قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلا تُنَفِّرُوا) (رواه مسلم).
- وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا، وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: (لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا) قَالَ: (وَجَدْنَاهُ بَحْرًا، أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ) قَالَ: وَكَانَ فَرَسًا يُبَطَّأُ" (متفق عليه). (وَجَدْنَاهُ بَحْرًا): أي واسع الجري.
- ولما خشي الصديق -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار، وقال له: "يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ!"؛ طمأنه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا) (متفق عليه).
- وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقال: (لا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لاعِبًا، وَلا جَادًّا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
فأين مِن هذه النصوص الخطيرة أولئك الذين يتجرؤون ويجرؤون على إرهاب الناس وتفزيعهم باسم المزاح واللعب، ويربون الصغار والكبار على التهاون في حقوق الناس وحرماتهم ومشاعرهم؟! بل يقع هذا الإسفاف في جملة كبيرة مِن البرامج التي توضع لها ميزانيات ضخمة، وتُعرَض على الناس في أشرف الأزمنة بغية شغلهم وصرفهم عما فيه الخير لهم. نسأل الله العفو والعافية.
- بل قد أخبر -صلى الله عليه وسلم- بلعن الملائكة لمَن أشار بالسلاح لأخيه المسلم وإن كان مِن أبيه وأمه -مما يدل على أن هذا الفعل مِن كبائر الذنوب-؛ تأكيدًا على حرمة المسلم، وعدم جواز تخويفه وإفزاعه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ) (رواه مسلم). وقال: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) (متفق عليه).
- وكان مِن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى الهلال: (اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بالأمْنِ وَالإيْمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلامِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى) (رواه ابن حبان والطبراني، وحسنه الألباني).
- الإسلام ومحاربة أسباب الخوف والتربية على الأمن:
إن الإسلام يربي أبناءه وأتباعه على الخوف مِن الله وحده، والرغبة والرهبة إليه -سبحانه-، والتوكل عليه وحده دون ما ومَن سواه؛ وبهذا يكون المسلم مِن أقوى الناس قلبًا، وأشدهم قوة وبأسًا، ولا يخشى أحدًا إلا الله؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:175)، وقال -تعالى-: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40)، وقال -تعالى-: (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) (البقرة:150)، وقال: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) (المائدة:44)، وقال: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ) (الأحزاب:39).
- ومتى كان المسلم بهذه المنزلة؛ ملأ الأرض علمًا وعملاً، ودعوة وبناءً، وجهادًا وتعميرًا وإصلاحًا، وكان أهلُ الإسلام كما وصف الله -تعالى-: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة:54)، (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) (المائدة:23).
- وبقدر ما يكون عند العبد مِن التوحيد والإيمان بقدر ما يكون في قلبه مِن الأمن وعدم الخوف مِن غير الله: قال الله -تعالى- عن الخيل إبراهيم -عليه السلام-: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:81-82).
- ولهذا فإن مِن أخطر ما يكون على عقيدة الأمة بأسرها "وخصوصًا شبابها وصغارها": التربية على الخوف وإرهابهم بالظلام أو الجن أو الشخصيات الوهمية؛ فهذا له أبلغ الأثر في قتل الشجاعة في نفوسهم، وتربيتهم على الخنوع والضعف والخور؛ فماذا يُنتظر منهم بعد أن يكبروا إلا الخوف والانكسار لأعدائهم؟!
مِن أسباب حصول الأمن وزوال الخوف:
- التوحيد وطاعة الله وترك معصيته: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام:82)، فإن مَن خالف الله -تعالى- أخاف الله منه كل شيء، وأمنه الله مِن كل شيء. وقال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الأنفال:53)، فالمعصية تبدل نعمة الأمن خوفًا.
- التقوى والإيمان والعمل الصالح: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأعراف:35)، (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام:48)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:277).
- النفقة في سبيل الله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:274).
- اتباع هدى الله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38).
- الاستقامة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف:13).
- ولاية الله: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62).
- ذكر الله: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28).
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالصبر والتراحم بين الناس: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد:17). فتعم الرحمة والأمن، ويزول الخوف بفضل الله -تعالى-.
- الإصلاح بيْن الناس، والسعي في قضاء حوائجهم، والشعور بآلامهم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ . أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد:11-16).
نسأل الله -جلَّ في علاه- أن يملأ بلادنا أمنًا وأمانًا، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم مَن أرادنا والإسلام بسوء؛ فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.